كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورد عليهم في هذه السورة بقوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} فأنكر الله كل هذا من قولهم ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم وليس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم وألقاه إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للالباس كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة وفي نسخة حكمة ليضل به من يشاء ويهدى من يشاء وما يضل به إلا الفاسقين و{ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} الآية- وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ ذكرت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وبشنعوا عليه على عادتهم وقولهم {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه وأشاعوا ذلك وأذاعوه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فحزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه فسلاه الله تعالى بقوله: {وما أرسلنا من قبلك} الآية، وبين للناس الحق من ذلك من الباطل وحفظ القران وأحكم آياته ودفع ما لبس به العدو كما ضمنه تعالى من قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ومن ذلك ما روى من قصة يونس عليه السلام أنه وعد قومه العذاب عن ربه فلما تابوا كشف عنهم العذاب فقال لا أرجع إليهم كذابا أبدا فذهب مغاضبا.
فاعلم أكرمك الله أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الباب أن يونس عليه السلام قال لهم أن الله مهلكهم وإنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك، والدعاء ليس بخبر يطلب صدقة من كذبه، لَكِنه قال لهم إن العذاب مصبحكم وقت كذا وكذا فكان ذلك كما قال ثم رفع الله تعالى عنهم العذاب وتداركهم، قال الله تعالى: {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى} الآية وروى في الأخبار أنهم رأوا دلائل الأعذاب ومخايله، قاله ابن مسعود، وقال سعيد بن جبير غشاهم العذاب كما يغشى الثوب القبر.
فإن قلت فما معنى ما روى «أن عبد الله بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ارتد مشركا وصار إلى قريش فقال لهم إنى كنت أصرف محمدا حيث أريد كان يملى على عزيز حكيم فأقول أو عليم حكيم؟ فيقول نعم كل صواب، وفي حديث آخر فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا. فيقول أكتب كذا: فيقول: أكتب كيف شئت. ويقول اكتب عليما حكيما فيقول أكتب سميعا بصيرا؟ فيقول له اكتب كيف شئت» وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن نصرانيا كان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلم ثم ارتد وكان يقول ما يدرى محمد إلا ما كتبت له».
اعلم ثبتنا الله وإياك على الحق ولا جعل للشيطان وتلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلا أن مثل هذه الحكاية أولا لا توقع في قلب مؤمن ريبا إذ هي حكاية عمن ارتد وكفر بالله ونحن لا نقبل خبر المسلم المتهم فكيف بكافر افترى هو ومثله على الله ورسوله ما هو أعظم من هذا؟ والعجب لسليم العقل يشغل بمثل هذه الحكاية سره وقد صدرت من عدو كافر مبغض للدين مفتر على الله ورسوله ولم يرد على أحد من المسلمين ولا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله وافتراه على نبى الله و{إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}، وما وقع من ذكرها في حديث أنس رضي الله عنه وظاهر حكايتها فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها ولعله حكى ما سمع وقد علل البزاز حديثه ذلك وقال: رواه ثابت عنه ولم يتابع عليه، ورواه حميد عن أنس قال وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت، قال القاضى أبو الفضل وفقه الله ولهذا والله أعلم لم يخرج أهل الصحيح حديث ثابت ولا حميد والصحيح حديث عبد الله بن عزيز بن رفيع عن أنس رضي الله عنه الذي خرجه أهل الصحة وذكرناه وليس فيه عن أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني.
ولو كانت صحيحة لما كان فيها قدح ولا توهيم للنبى صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه ولا جواز للنسيان والغلط عليه والتحريف فيما بلغه ولا طعن في نظم القران وأن من عند الله إذ ليس فيه لو صح أكثر من أن الكاتب قال له عليم حكيم أو كتبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كذلك هو فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما نزل على الرسول قبل إظهار الرسول لها إذ كان ما تقدم مما أملأه الرسول يدل عليها ويقتضى وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام ومعرفته به وجودة حسه وفطنته كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت أن يسبق إلى قافيته أو مبتدإ الكلام الحسن إلى ما يتم به ولا يتفق ذلك في جملة الكلام كما لا يتفق ذلك في آية ولا سورة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن صح كل صواب فقد يكون هذا فيما فيه من مقاطع الآى وجهان وقراءتان أنزلنا جميعا على النبي صلى الله عليه وسلم فأملى إحداهما وتوصل الكاتب بفطنته ومعرفته بمقتضى الكلام إلى الأخرى فذكرها للنبى صلى الله عليه وسلم فصوبها له النبي صلى الله عليه وسلم ثم أحكم الله من ذلك ما أحكم ونسخ ما نسخ كما قد وجد ذلك في بعض مقاطيع الآى مثله قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وهذه قراءة الجمهور وقد قرأ جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم وليست من المصحف وكذلك كلمات جاءت على وجهين في غير المقاطع قرأ بهما معا الجمهور وثبتتا في المصحف مثل وانظر إلى العظام كيف ننشرها، وننشزها ويقضى اللحق، ويقص الحق وكل هذا لا يوجب ريبا ولا يسبب للنبى صلى الله عليه وسلم غلطا ولا وهما وقد قيل إن هذا يحتمل أن يكون فيما يكتبه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس غير القران فيصف الله ويسميه في ذلك كيف شاء.
فصل:
هذا القول فيما طريقه البلاغ وأما ما ليس سبيله سبيل البلاغ من الأخبار التى لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحى بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه فالذي يجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفي حال سخطه وجده ومزحه وصحته ومرضه ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله وللثقة بجميع أخباره في أي باب كانت وعن أي شيء وقعت وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد في شيء منها ولا استثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا، ولما احتج ابن أبى الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم واحتج عليه عمر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «كيف بك إذا أخرجت من خيبر؟» فقال اليهودي كانت هزيلة من أبى القاسم فقال له عمر: كذبت يا عدو الله وأيضا فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها ولم يرد في شيء منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط في قول قاله أو اعترافه بوهم في شيء أخبر به ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته عليه السلام رجوعه صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار في تلقيح النحل وكان ذلك رأيا لا خبرا وغير ذلك من الأمور التى ليست من هذا الباب كقوله «والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي حلفت عليه وكفرت عن يمينى»، وقوله «إنكم تختصمون إلي...»- الحديث- وقوله «اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر» كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما في هذا الباب والذى بعده إن شاء الله مع أشباههما وأيضا فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخبره واتهم في حديثه ولم يقع قوله في النفوس موقعا ولهذا ترك المحدثون والعلماء الحديث عمن عرف بالوهم والغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط مع ثقته وأيضا فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية والإكثار منه كبيرة بإجماع مسقط للمروءة وكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ويستشنع مما يخل بصاحبها ويزري بقائلها لا حقة بذلك وأما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل تجرى على حكمها في الخلاف فيها مختلف فيه والصواب تنزيه النبوة عن قليله وكثيره وسهوه وعمده إذ عمدة النبوة البلاغ والإعلام والتبيين وتصديق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك ومشكك فيه مناقض للمعجزة فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه لا بقصد ولا بغير قصد ولا نتسامح مع من تسامح في تجوز ذلك عليهم حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ، نعم وبأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ولا الاتسام به في أمورهم وأحوال دنياهم لأن ذلك كان يزرى ويريب بهم وينفر القلوب عن تصديقهم بعد وانظر أحوال عصر النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها من الأمم وسؤالهم عن حاله في صدق لسانه وما عرفوا به من ذلك واعترفوا به مما عرف وإتفق النقل على عصمة نبينا صلى الله عليه وسلم منه قبل وبعد وقد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين لك صحة ما أشرنا إليه.
فصل:
فإن قلت فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضى أبو الأصبغ ابن سهل حدثنا حاتم بن محمد حدثنا أبو عبد الله بن الفخار حدثنا أبو عيسى حدثنا عبيد الله نا يحيى عن داود بن الحصين عن أبى سفيان مولى ابن أبى أحمد أنه قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن» وفي الرواية الأخرى «ما قصرت الصلاة وما نسيت»- الحديث بقصته- فأخبر بنفى الحالتين وأنها لم تكن وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فاعلم وفقنا الله ذلك كما قال ذو اليدين قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فاعلم وفقنا الله وإياك أن للعلماء في ذلك أجوبة بعضها بصدد الإنصاف ومنها ما هو بنية التعسف والاعتساف وها أنا أقول أما على القول بتجويز الوهم والغلط مما ليس طريقه من القول البلاغ وهو الذي زيفناه من القولين فلا اعتراض بهذا الحديث وشبهه وأما على مذهب من يمنع السهو والنسيان في أفعاله جملة ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن فهو صادق في خبره لأنه لم ينس ولا قصرت ولَكِنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة ليسنه لمن اعتراه مثله وهو قول مرغوب عنه نذكره في موضعه وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول كما سنذكره ففيه أجوبة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن اعتقاده وضميره أما إنكار القصر فحق وصدق باطنا وظاهرا وأما النسيان فأخبر صلى الله عليه وسلم عن اعتقاده وأنه لم ينس في ظنه فكأنه قصد الخبر بهذا عن ظنه وأن لم ينطق به وهذا صدق أيضا.
ووجه ثان أن قوله «ولم أنس» راجع إلى السلام أي أنى سلمت قصدا وسهوت عن العدد أي لم أسه في نفس السلام وهذا محتمل وفيه بعد ووجه ثالث وهو أبعدها ما ذهب إليه بعضهم وإن احتمله اللفظ من قوله «كل ذلك لم يكن» أي لم يجتمع القصر والنسيان بل كان أحدهما ومفهوم اللفظ خلافة مع الرواية الأخرى الصحيحة وهو قوله «ما قصرت الصلاة وما نسيت»، هذا ما رأيت فيه لأئمتنا وكل من هذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها وتعسف الآخر منها، قال القاضى أبو الفضل وفقه الله والذى أقول ويظهر لى أنه أقرب من هذه الوجوه كلها أن قوله «لم أنس» إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه وأنكره على غيره بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا» ولَكِنه نسى، وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر «لست أنسى ولَكِن أنسى» فلما قال له السائل أقصرت الصلاة أم نسيت أنكر قصرها كما كان ونسيانه هو من قبل نفسه وأنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسى حتى سأل غير فتحقق أنه نسى وأجرى عليه ذلك ليسن فقوله على هذا «لم أنس ولم تقصر وكل ذلك لم يكن» صدق وحق لم تقصر ولم ينس حقيقة ولَكِنه نسى ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ وذلك أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ولذلك نفى عن نفسه النسيان قال لأن النسيان غفلة وآفة والسهو إنما هو شغل.
قال فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ولا يغفل عنها وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله ما قصرت وما نسيت خلف في قول وعند أن قوله: ما قصرت الصلاة وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهى النسيان أراد والله أعلم أنى لم أسلم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة ولَكِني نسيت ولم يكن ذلك من تلقاء نفسي والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «إنى لأنسى أو أنسى، لأسن».
وأما قصة كلمات إبراهيم المذكورة أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان قوله: {إنى سقيم} {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله للملك عن زوجته: إنها أختى: فاعلم أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب لا في القصد ولا في غيره وهي داخلة في باب المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب أما قوله: {إنى سقيم} فقال الحسن وغيره معناه: سأسقم أي: أن كل مخلوق معرض لذلك فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا وقيل بل سقيم بما قدر على من الموت وقيل سقيم القلب بما أشاهده من كفركم وعنادكم وقيل بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم فلما رآه اعتذر بعادته وكل هذا ليس فيه كذب بل خبر صحيح صدق وقيل: بل عرض بسقم حجته عليهم وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التى كانوا يشتغلون بها وأنه أثناء نظره في ذلك وقبل استقامة حجته عليهم في حال سقم ومرض مع أنه لم يشك هو ولا ضعف إيمانه ولَكِنه ضعف في استدلاله عليهم وسقم نظره كمال يقا حجة سقيمة ونظر معلول حتى ألهمه الله باستدلاله وصحة حجته عليهم بالكواكب والشمس والقمر ما نصه الله تعالى وقدمنا بيانه وأما قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} الآية فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه وهذا صدق أيضا ولا خلف فيه، وأما قوله أختى فقد بين في الحديث وقال: فإنك أختى في الإسلام وهو صدق والله تعالى يقول: {إنما المؤمنون إخوة} فإن قلت: فهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد سماها كذبات وقال «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» وقال في حديث الشفاعة «ويذكر كذباته» فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلام ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه السلام بمؤاخذته بها وأما الحديث «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها» فليس فيه خلف في القول إنما هو ستر مقصده لئلا يأخذ عدوه حذره وكتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر والبحث عن أخباره والتعريض بذكره لا أنه يقول تجهزوا إلى غزوة كذا أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده فهذا لم يكن والأول ليس فيه خبر يدخله الخلف.
فإن قلت فما معنى قوله موسى عليه السلام، وقد سئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا أعلم فتعب الله عليه ذلك إذ لم يرد العلم إليه- الحديث- وفيه قال بل عبد لنا بمجمع البحرين أعلم منك وهذا خبر قد أنبأ الله أنه ليس كذلك فاعلم أنه وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة عن ابن عباس هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق وصدق لا خلف فيه ولا شبهة، وعلى الطريق الآخر فمحمله على ظنه ومعتقده كما لو صرح به لأن حاله في النبوة والاصطفاء يقتضى ذلك فيكون إخباره بذلك أيضا عن اعتقاده وحسبانه صدقا لا خلف فيه وقد يريد بقوله أنا أعلم بما يقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد وأمور الشريعة وسياسة الأمة ويكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه كالقصص المذكورة في خبرهما فكان موسى عليه السلام أعلم على الجملة بما تقدم وهذا أعلم على الخصوص بما أعلم ويدل عليه قوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علما} وعتب الله ذلك عليه فيما قاله العلماء إنكار هذا القول عليه لأنه لم يرد العلم إليه كما قالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا أو لأنه لم يرض قوله شرعا وذلك والله أعلم لئلا يقتدى به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه وعلو درجته من أمته فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ويورثه ذلك من الكبر والعجب والتعاطي والدعوى وإن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها ودرك ليلها إلا من عصمه الله فالتحفظ منها أولى لنفسه وليقتدى به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم تحفظا من مثل هذا مما قد علم به «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وهذا الحديث إحدى حججا لقائلين بنبوة الخضر لقوله فيه أنا أعلم من موسى ولا يكون الولى أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف وبقوله وما فعلته عن أمرى، فدل أنه بوحى، ومن قال إنه ليس بنبى قال يحتمل أن يكون فعله بأمر نبى آخر، وهذا يضعف لأنه ما علما أنه كان في زمن موسى نبى غيره إلا أخاه هارون وما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئا يعول عليه، وإذا جعلنا أعلم منك ليس على العموم وإنما هو على الخصوص وفي قضايا معينة لم يحتج إلى إثبات النبوة خضر، ولهذا قال بعض الشيوخ كان موسى اعلم من الخضر فيما أخذ عن الله والخضر أعلم فيما دفع إليه من موسى، وقال آخر أنما ألجئ موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم.